في اللغة العربية كلمات وألفاظ، يدل كل لفظ منها على معان مختلفة، يحددها
السياق الذي وردت فيه؛ فمثلاً، لفظ: ( العين ) يطلق على العين الباصرة،
ويطلق على الشمس، ويطلق على عين الماء، ويطلق على الجاسوس، ويطلق على معان
أُخر .
وظاهر اللفظ القرآني ما يتبادر منه إلى الذهن من المعاني، وهو يختلف بحسب
السياق، وما يضاف إليه؛ فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق معين، ومعنى
آخر في سياق مختلف، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه، ومعنى آخر على وجه
غيره؛ فمثلاً لفظ ( القرية ) في قوله تعالى: { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها
قبل يوم القيامة } (الإسراء:58) يراد بها القوم، واللفظ نفسه في قوله
سبحانه على لسان ضيف إبراهيم: { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } (العنكبوت:31)
يراد بها مساكن القوم، وسياق الآيتين هو الذي حدد المعنى المراد وعينه .
والذي يعنينا من هذه الظاهرة القرآنية اللغوية هنا، أن نبين أنه وردت في
القرآن الكريم ألفاظ، اختلفت معانيها وفق السياقات والسباقات التي وردت
فيها؛ فقد يسبق للذهن منها عند الوهلة الأولى غير ما هو مراد منها؛ ولكن
إذا أمعنا النظر في ذلك اللفظ على ضوء السياق والسباق الذي جاء به، استطعنا
أن نفهم المقصود من ذلك اللفظ، وبالتالي فهم الآية بناء على ذلك؛ وبمثال
آخر يزداد الأمر بيانًا، فنقول:
لفظ ( الأمة ) ورد في القرآن الكريم في تسعة وأربعين موضعًا، وبعدة معان
مختلفة، وفق السياق الذي ورد فيه، ولتوضيح ذلك يحسن بنا أن نلقي نظرة سريعة
على بعض السياقات القرآنية التي ورد فيها هذا اللفظ فنقول:
الأَمُّ في اللغة، بفتح الهمزة: القصد؛ تقول: أمَّه يؤمُّه أمًّا، إذا
قصده. والتيمم بالصعيد في قوله تعالى: { فتيمموا صعيداً طبيًا }
(المائدة:6) مأخوذ من هذا .
و ( الإِمَّة ) و( الأُمَّة ) بكسر الهمزة وبضمها: الحالة والشِّرْعَة
والطريقة، ومنه قوله تعالى: { إنا وجدنا أباءنا على أمة } (الزخرف:23) أي:
كانوا على دين وشِرعة لا يحيدون عنها .
ونقرأ أيضًا قوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } (آل عمران:110) أي: كنتم خير أهل دين جاء للناس .
و ( الأُمَّة ): القرن من الزمن - بمعنى الفترة الزمنية - يقال: قد مضت
أمم، أي قرون وسنون؛ ومنه قوله تعالى: { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة
معدودة } (هود:
أي: إلى وقت مقدر ومحدد .
وأمة كل نبي: من أرسل إليهم، من كافر ومؤمن؛ قال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } (النحل:36) .
و ( الأُمَّة ): الجيل والجنس من كل حي، وفي التنـزيل قوله تعالى: { وما من
دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أُمَمٌ أمثالكم } (الأنعام:38)
وكل من الحيوان أمة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ( لولا أن الكلاب أمة
من الأمم لأمرت بقتلها ) رواه أحمد .
وكل من كان على دين مخالفًا لسائر الأديان، فهو أمة وحده؛ ومنه قوله تعالى:
{ إن إبراهيم كان أمة } (النحل:120) وهذا على رأي بعض المفسرين، وقال
آخرون: إن ( أمة ) هنا بمعنى الإمام والقدوة .
و ( الأمَّة ): الحين من الزمن، ومنه قوله تعالى: { وقال الذي نجا منهما وأدكر بعد أمة } (يوسف:45) أي: بعد حين من الزمن .
و ( الأمَّة ): الجماعة، ومنه قوله تعالى: { وإذ قالت أمة منهم } (الأعراف:164) أي: جماعة .
و ( أُمُّ ) كل شيء: أصله وعماده، وفي التنـزيل قوله سبحانه: {هن أم الكتاب
} (آل عمران:7) أي: أصله وأساسه الذي يرجع إليه عن الاشتباه؛ وقوله: {
وإنه في أم الكتاب لدينا } (الزخرف:4) أي: في اللوح المحفوظ، إذ هو الأصل
الذي نزل منه القرآن .
و ( أم الرأس ): الدماغ، وبه فسر قوله تعالى: { فأمة هاوية } (القارعة:9)
قيل: معناه ساقط هاوٍ بأم رأسه في نار جهنم؛ وعبر عنه بأمه، يعني دماغه،
روي نحو هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره .
و ( الإمام ) في قوله تعالى: { وإنهما لبإمام مبين } (الحجر:79) - وهو من اشتقاقات لفظ الأمة - يعني الطريق الواضح البيِّن .
ثم إن لهذا اللفظ ( أمم ) معان أُخر، ذكرها أصحاب قواميس اللغة، أعرضنا
عنها مخافة الإطالة، واقتصرنا لك من معاني الكلمة على ما جاء في القرآن
فحسب .
فتحصَّل من مجموع ما تقدم - أخي الكريم - أن ألفاظ القرآن الكريم ليست ذات
دلالة واحدة لا تخرج عنها أينما وردت، بل إن العديد من تلك الألفاظ تحمل
دلالات عدة ومختلفة، يحددها السياق والسباق القرآني الذي وردت فيه، ومن هنا
تظهر لك أهمية فهم اللفظ القرآني على ضوء سياقه وسباقه الذي ورد فيه، وفي
إطار متقدمه ومتأخره، ولا ينبغي أن يفهم اللفظ القرآني مقطوعًا عن سياقه
وسباقه، ومبتورًا عن متقدمه ومتأخره، ففي ذلك ما فيه من الإخلال في الفهم،
والبعد عن القصد، والتجافي عن الصواب .
----------------------------------------------------------------
منقول للإفادة عن موقع الشبكة الإسلامية و للأمانة العلمية
نسألكم الدعاء
البلاغة في القرآن الكريم - ظالم النفس والسوء
في الآية الكريمة .. : (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) .. وقوله تعالى: (ومن يعمل سوءا أويظلم نفسه ) بعض الناس يتساءل : أليست الفاحشة والسوء هما ظلم النفس .. انهمانفس الشيء . . فالذي يظلم نفسه يقودها إلى العذاب .. والذي يفعل فاحشة يقود نفسه إلى العذاب .. نفس الشيء .. بل إن بعض الناس يقولون إن العطف هنا غير واجب ولكنني أقول لهم أن دقة التعبير .. ودقة اللفظ من دقة القائل .. والله سبحانه وتعالى يبين لنا إعجاز القرآن .. ويقول لنا إن هناك فارقا بين من يفعل سوءا أو فاحشة .. ومن يظلم نفسه .. ما هو هذا الفارق ؟ الذي يفعل سوءا أو فاحشة يفعلها ليحقق لذة عاجلة .. نفس ضعيفة يغلبها الهوى وتخضع لبريق الدنيا .. إنسان شربالخمر .. حقق لنفسه لذة الخمر .. إنسان زنا .. حقق لنفسه شهوة عاجلة .. إنسان سرقمال غيره .. حقق لنفسه شهوة عاجلة بالتمتع بهذا المال .. هذا هو الإنسان الذي يفعل السوء أو الفاحشة .. أما الإنسان الذي يظلم نفسه فهو إنسان آخر ... إنه يرتكب إثما ولا يستفيد منه .. لا يعطي نفسه شيئا في الدنيا ولا في الآخرة .. حينئذ يكون قد ظلم نفسه .. بمعنى إنه لا أعطاها شيئا عاجلا .. ولا نجاها من عذاب الآخرة ومن الناسمن يبيع دينه بدنياه .. ومنهم من يبيع دينه بدنيا غيره .. الذي يبيع دينه بدنياه يطلب العاجلة .. أما من باع دينه بدنيا غيره .. خاب في الأولى والآخرة .. هو الذي ظلم نفسه .. ولكن كيف يظلم الإنسان نفسه ارتكب إثما .. شهادة الزور دون أن يحقق نفعا دنيويا إذا قبض ثمن شهادة الزور .. يكون قد حقق نفعا دنيويا .. ولكن الذي يظلم نفسه هو الذي يفعل ذلك ليرضي غيره .. ونجد كثيرين في الدنيا مثل هؤلاء .
إنسانيتهم إنسانا آخر بتهمة باطلة .. لا يستفيد هو شيئا ... ويرتب الإثم , إذن هو ظلم نفسه .. إنسان يكتب تقريرا كاذبا في إنسان ليمنع ترقيته .. أو يتطوع بحديث يختلقه عن شخص ليمنع الخير عنه أو يؤذيه .. أو يشي بشخص كذبا ليدخله السجن .. أو يضعه في الاعتقال .. أو يتجسس على إنسان ليلفق له تهمة لمجرد الانتقام التافه .. كل هؤلاء يظلمون أنفسهم .. إنهم يرتكبون الإثم في الدنيا .. ولا يجعلون له فائدة لا في دنياهم .. ولا في آخرتهم .. فكأن الذي ظلم نفسه هو الذي جعلها تدخل النار .. هوالذي جعلها ترتكب الإثم .. وفي نفس الوقت لم يعطها شيئا على وجه الإطلاق .. فهوظالم لنفسه في الدنيا .. ظالم لنفسه في الآخرة .. وهنا فرق بين التعبيرين .. ومنهنا لا نقول أبدا هذا عطف .. ولا ألفاظ مترادفة بل دقة بالغة في التعبير.